الجمعة، 16 يونيو 2017

آفات المناظرة و ما يتولد عنها من مهلكات الأخلاق| كلام أنفس من الذهب به تفصيل عن أمراض أكثر فتكا ً من أمراض الجسد

أعلم و تحقق أن المناظرة الموضوعة لقصد الغَلَبة و الإفحام و إظهار الفضل و الشرف و التشدق (الكلام بدون فائدة ) عند الناس و قصد المباهاة و المماراة (المجادلة) و استمالة وجوه الناس ، هي منبع جميع الأخلاق المذمومة عند الله و المحمودة عند عدو الله إبليس و نسبتها إلى الفواحش الباطنة من الكبر ، و العجب و الحسد و المنافسة وتزكية النفس و حب الجاه كنسبة شرب الخمر إلى الفواحش الظاهرة من الزنا ، و القذف و لقتل و السرقة ، وكما أن الذى خير بين الشرب و سائر الفواحش استصغر الشرب فأقدم عليه ، فدعاه ذلك إلى ارتكاب بقية الفواحش فى سكره ،فكذلك من غلب عليه حب الإفحام و الغلبة فى المناظرة ، وطلب الجاه و المباهاة ، دعاه ذلك إلى إضمار الخبائث كلها فى النفس و هيّج فيه جميع الأخلاق المذمومة ،وهذه الأخلاق ستأتي أدلة مذمتها من الأخبار من الأخبار و الآيات فى ربع المهلكات ،ولكننا نشير الآن إلى مجامع ما تهيجه المناظرة :
فمنها #الحسد وقد قال رسول الله " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " ولا ينفك المناظر عن الحسد فإنه تارة يغلب و تارة يُغلب وتارة يُحمد كلامه و تارة يُحمد كلام غيره فما دام يبقى فى الدنيا واحد يذكر بقوة العلم و النظر أو يظن أنه أحسن منه كلاما و أقوى نظرا ً فلابد أن يحسده و يحب زوال النعم عنه و انصراف القلوب و الوجوه عنه إليه و الحسد نار محرقة ، فمن بلي به فهو فى العذاب فى الدنيا و لعذاب الآخرة أشد و أعظم و لذلك قال ابن عباس رضى الله عنهما " خذوا العلم حيث وجدتموه ولا تقبلوا قول الفقهاء لبعضهم على بعض فإنهم يتغايرون كما تتغاير التيوس (الجدي الكبير ) فى الزريبة .
ومنها #التكبر و الترفع عن الناس فقد قال صلى الله عليه وسلم " من تكبر وَضعَهُ الله ومن تواضع رفعه الله " وقال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى " العظمة إزاري و الكبرياء ردائي فمن نازعني فيهما قصمته " ولا ينفك المناظر عن التكبر على الأقران و الأمثال ،و الترفع فوق قدره، حتى أنهم ليتقاتلون على مجلس من المجالس يتنافسون فيه فى الارتفاع و الانخفاض ، والقرب من وسادة الصدر ( الصدارة ) و البعد منها ، و التقدم فى الطرق عند مضايق الطرق وربما يتعلل الغبي و الماكر الخادع منهم بأنه ينبغى صيانة عز العلم " و أن المؤمن منهي عن الإذلال لنفسه " فيعبر عن التواضع الذى أثنى الله عليه و سائر أنبيائه بالذل ، و عن التكبر الممقوت عند الله بعز الدين ، تحريفا للاسم و إضلالا ً للخلق به كما فعل فى اسم الحكمة و العلم و غيرهما . 
ومنها #الحقد فلا يكاد المناظر يخلو عنه وقد قال صلى الله عليه وسلم " المؤمن ليس بحقود" وورد فى ذم الحقد ما لا يخفى ولا نرى مناظرا ً يقدر على ألا يضمر حقدا ً على من يحرك رأسه من كلام خصمه ويتوقف فى كلامه فلا يقابله بحسن فلا يقابله بحسن الإصغاء بل يضطر إذا شاهد ذلك إلى إضمار الحقد و تربيته فى نفسه ، و غاية تماسكه الإخفاء بالنفاق ويترشح منه إلى الظاهر لا محالة فى غالب الأمر ، وكيف ينفك عن هذا ، ولا يتصور اتفاق جميع المستمعين على ترجيح كلامه ، و استحسان جميع أحواله فى إيراده و إصداره ، بل لو صدر من خصمه أدنى سبب فيه قلة مبالاه بكلامه انغرس فى صدره حقد لا يقلعه مدى الدهر إلى آخر العمر .
ومنها الغيبة و قد شبهها الله بأكل الميتة ولا يزال المناظر مثابرا على أكل الميتة فإنه لا ينفك عن حكاية كلام خصمه ومذمته و غاية تحفظه أن يصدق فيما يحكيه عليه ولا يكذب فى الحكاية عنه ، فيحكي عنه لا محالة ما يدل على قصور كلامه و عجزه و نقص فضله ،وهو الغيبة ، فأما الكذب فبهتان  وكذلك لا يقدر على أن يحفظ لسانه عن التعرض لعِرض من يعرض عن كلامه و يصغى إلى خصمه ويقبل عليه ، و يقبل عليه ،حتى ينسبه إلى الجهل وقلة الفهم والبلادة . 
ومنها #تزكية النفس قال تعالى " فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى"
وقيل لحكيم : وما الصدق القبيح ؟ فقال : ثناء المرء على نفسه ، ولا يخلو المناظر من الثناء على نفسه بالقوة و الغلبة ، و التقدم بالفضل على الأقران ، ولا ينفك أثناء المناظر عن قوله: لست ممن يخفى عليه أمثال هذه الأمور و أنا المتفنن فى العلوم و المستقل بالأصول وحفظ الأحاديث و غير ذلك مما يمتدح به تارة على سبيل الصَّلف (مدح النفس) و تارة للحاجة إلى ترويج كلامه ، ومعلوم أن الصَّلف و التمدح مذمومان شرعا ً و عقلا ً.
ومنها #التجسس و تتبع عورات الناس ،وقد قال الله تعالى " ولا تجسسوا" والمناظر لا ينفك عن طلب عثرات أقرانه و تتبع عورات خصومه ، حتى أنه ليخبر بورود مناظر إلى بلد فيطلب من يخبر بواطن أحواله ، و يستخرج بالسؤال مقابحه ، حتى يعدها ذخيرة لنفسه فى إفضاحه و تخجيله إذا مست إليه الحاجة ، حتى إنه ليستكشف عن أحوال صباه ، وعن عيوب بدنه فعساه يعثر على هفوة أو على عيب به من فزع أو غيره ، ثم إذا أحس بأدنى غلبة من جهته عَرض به إن كان مستمسكا ً و يستحسن ذلك منه ، و يعد من لطائف التسبب (الشتم) ، ولا يمتنع عن الإفصاح به إذا كان متبجحا ً بالسفاهة و الاستهزاء ، كما حكي عن قوم من أكابر المناظرين المعدودين من فحولهم .
ومنها #الفرح لمساءة الناس و الغم لمسارهم ، ومن لا يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه فهو بعيد من أخلاق المؤمنين ، فكل من طلب المباهاة بإظهار الفضل لا يسره لا محالة ما يسوء أقرانه و أشكاله الذين يسامونه فى الفضل ، و يكون التباغض بينهم كما بين الضرائر فكما أن أحدى الضرائر إذا رات صاحبتها من بعيد ارتعت فرائصها و اصفر لونها ، فهكذا ترى المناظر إذا رأى مناظرا ً ،تغيير لونه ، و اضطرب عليه فكره فكأنه يشاهد شيطانا ً ماردا ً أو سبعا ضاريا ً ! فأين الاستئناس و الاسترواح الذي كان يجري بين علماء الدين عند اللقاء ، وما نقل عنهم من المؤاخاه و التناصر و التساهم فى السراء و الضراء ، حتى قال الشافعي رضى الله عنه : العلم بين أهل الفضل و العقل رحم متصل ، فلا أدرى كيف يُدعي الاقتداء بمذهب جماعة صار العلم بينهم عداوة قاطعة ، فهل يتصور أن يُنسب الأنس بينهم مع الغلبة و المباهاة ؟ هيهات هيهات ! وناهيك بالشر شرا ً أن يـُلزمك أخلاق المنافقين ويبرئك عن أخلاق المؤمنين المتقين .
ومنها # النفاق ، فلا يُتحاج إلى ذكر الشواهد فى ذمه ، وهم مضطرون إليه ، فإنهم يلقون الخصوم ومحبيهم و أشياعهم ولا يجدون بدا ً من التودد إليهم باللسان ، و إظهارا الشوق و الاعتداد بمكانهم و أحوالهم ، ويعلم ذلك المخاطِب و المخاطَب وكل من يسمع منهم أن ذلك كذب و زور ، ونفاق و فجور ، فإنهم متودِّدون بالألسنة ، متباغضون بالقلوب ، نعوذ بالله العظيم منه ! فقد قال صلى الله عليه وسلم " إذا تعلم الناس العلم وتركوا العمل و تحاربوا بالألسُن و تباغضوا بالقلوب و تقاطعوا فى الأرحام لعنهم الله عند ذلك فأصمهم و أعمى أبصارهم " رواه الحسن ، وقد قد صح ذلك بمشاهدة هذه الحالة .
ومنها #الاستكبار عن الحق و كراهيته ، و الحرص على الممارة فيه ، حتى إن أبغض شيء إلى المناظر أن يظهر على لسان خصمه الحق .
ومهما ظهر تشمر لجحده و إنكاره بأقصى جهده ، وبذل غاية إمكانه فى المخادعة و المكر و الحيلة لدفعه ، حتى تصير الممارة فيه عادة طبيعية ، فلا يسمع كلاما ً إلا و ينبعث من طبعه داعية الاعتراض عليه ، حتى يغلب ذلك على قلبه فى أدلة القرآن ، و ألفاظ الشرع ، فيضرب البعض منها بالبعض ، و المراء(الجدال) فى مقابلة الباطل محذور ، إذ ندب رسول الله إلى ترك المراء بالحق على الباطل ،قال صلى الله عليه وسلم " من ترك المراء وهو مُبطل بنى الله له بيتا ً فى ربض الجنة " وقد سوَّى الله تعالى بين من افترى على الله كذبا و بين من كذب بالحق ،فقال تعالى " وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ" وقد قال تعالى : "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ" .
ومنها #الرياء ،وملاحظة الخلق ، و الجهد فى استمالة قلوبهم ، وصرف وجوههم . الرياء هو الداء العضال الذى يدعو إلى أكبر الكبائر (....)والمناظر لا يقصد إلا الظهور عند الخلق و انطلاق ألسنتهم بالثناء عليه . 
فهذه عشرة خصال من أمهات الفواحش الباطنة ، سوى ما يتفق لغير المتماسكين منهم : من الخصام المؤدي إلى الضرب و اللكم و اللطم ، و تمزيق الثياب ، و الأخذ باللحى ، وسب الوالدين ، وشتم الأستاذين ، و القذف الصريح فإن أولئك ليسوا معدودين فى زمرة الناس المعتبرين ، و إنما الأكابر و العقلاء منهم هم الذين لا ينفكون عن هذه الخصال العشرة ، نعم قد يسلم بعضهم على بعض ، مع من هو ظاهر الانحطاط عنه(يقصد فى المنزلة أو العلم ) أو ظاهر الارتفاع عليه أو هو بعيد عن بلده ، و أسباب معيشته ، ولا ينفك أحد منهم مع أشكاله المقارنين له فى الدرجة .
ثم يتشبع من كل واحدة من هذه الخصال العشر عشر أخرى من الرذائل لم نطول بذكرها و تفصيل  آحادها : مثل الأنفة و الغضب و البغضاء و الطمع وحب طلب المال و الجاه للتمكن من الغلبة و المباهاة و الأَشِر و البَطِر ، و تعظيم الأغنياء و السلاطين و التردد إليهم ، و الأخذ من حرامهم ، و التجمل بالخيول و المراكب و الثياب المحظورة ، و الاستحقار للناس بالفخر و الخيلاء ، و الخوض فيما لا يعنى ، وكثرة الكلام ، و خروج الخشية و الخوف و الرحمة من القلب و استيلاء الغفلة عليه حتى لا يدري المصلي منهم ما صلى وما الذى قرأ و ما الذى يناجيه ولا يحس بالخشوع من قلبه مع استغراق العمر فى العلوم التى تعين فى المناظرة مع أنها لا تنفع فى الآخرة : من تحسين العبارة و تسجيع اللفظ و حفظ النوادر ، إلى غير ذلك من أمور لا تحصى ، و المناظرون يتفاوتون فيها على حسب درجاتهم ولهم درجات شتى ، ولا ينفك أعظمهم دينا و أكثرهم عقلا عن جمل من مواد هذه الأخلاق و إنما غايته إخفاؤها ومجاهدة النفس بها .
و أعلم أن هذه الرزائل لازمة للمشتغل بالتذكير و الوعظ أيضا ً إذا كان قصده طلب القبول و إقامة الجاه و نيل الثروة و العزة وهي لازمة أيضا للمشتغل بعلم المذهب و الفتوى إذا كان قصده طلب القضاء و ولاية الأوقاف و التقدم على الأقران .
وبالجملة هي لازمة لكل من يطلب بالعلم غير ثواب الله تعالى فى الآخرة فالعلم لا يمهل العالم بل يهلكه هلاك الأبد أو يحييه حياة الأبد و لذلك قال صلى الله عليه وسلم :" أشد الناس عذابا ً يوم القيامة عالم لا ينفعه الله بعلمه " فلقد ضره مع أنه لم ينفعه وليته نجى رأسا ً برأس ، وهيهات هيهات ! فخطر العلم عظيم ،وطالبه طالب الملك المؤبد  ،و النعيم السرمدي فلا ينفك عن الملك أو الهلك ، وهو كطالب الملك فى الدنيا فإن لم يتفق له الإصابة فى الأحوال لم يطمع فى السلامة من الإذلال ، بل لابد من لزوم أفضح الأحوال .
فإن قلت : فى الرخصة فى المناظرة فائدة وهي ترغيب الناس فى طلب العلم ، إذ لولا حب الرياسة لاندرست العلوم ، فقد صدقت فيما  ذكرته من وجه ولكنه غير مفيد إذ لولا الوعيد بالكرة و الصولجان و اللعب بالعصافير ما رغب الصبيان فى الكتب ، وذلك لا يدل على أن الرغبة فيه محمودة ، ولولا حب الرياسة لاندرس العلم ، ولا يدل على ذلك أن طالب الرياسة ناج ٍ بل هو من الذين قال صلى الله عليه وسلم فيهم : " ان الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم " وقال صلى الله عليه وسلم " أن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " فطالب الرياسة فى نفسه هالك ، وقد يصلح بسببه غيره إن كان يدعو إلى ترك الدنيا ، و ذلك فيمن كان ظاهر حاله فى ظاهر الأمر ظاهر حال علماء السلف ، ولكنه يضمر قصد الجاه . فمثاله مثال الشمع الذى يحترق و يستضيء به غيره ، فصلاح غيره فى هلاكه . فأما إذا كان يدعو إلى طلب الدنيا فمثاله مثال النار المحرقة التى تأكل نفسها و غيرها . 
فالعلماء ثلاثة : إما مهلك نفسه و غيره ،و هم المصرحون بطلب الدنيا و المقبلين عليها ، و إما مسعد نفسه و غيره ، وهم الداعون الخلق إلى الله سبحانه ظاهرا ً و باطنا ً ، و أما مهلك نفسه مسعد  غيره ،وهو الذى يدعو إلى الآخرة وقد رفض الدنيا فى ظاهره وقصد فى الباطن قبول الخلق ، و إقامة الجاه ، فانظر أي الأقسام أنت ، ومن الذى اشتغلت بالاعتداد له ، فلا تظن أن الله تعالى يقبل غير الخالص لوجهه تعالى من العلم و العمل ، و سيأتيك فى كتاب الرياء فى جميع ربع المهلكات ما ينفي عنك الريبة فيه ، إن شاء الله  تعالى.
من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي نقلا عن كتاب المطالعة الأزهرية للصف الثالث الثانوي أدبي 1431 \ 1432هـ 2010\ 2011 م 
ملاحظة ما بين الأقواس مترادفات دونها المدون. لم يتم بحث حكم  الأحاديث من جهة صحتها . أخيرا نأكد على ضرورة قبولنا للحق دون النظر إلى من قاله 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شارك المنشور

موضوعات ذات صلة

موضوعات مشابه